call us now

(+963) 930-983524

منظمات المجتمع المدني في شمال وشرق سوريا بين الواقع والمأمول

2020-12-01
مصطفى الخليل

كان مفهوم منظمات المجتمع المدني في سوريا قبل عام2011 غير معروف، في سياقه الموضوعي، إلا لدى النّخب من السياسيين والمثقفين، وبعض الشخصيات والتيارات المُناوئة لسلطة النظام؛ الذي أجهز على كل صوت يدعو لأخذ المجتمع المدني دوره؛ في السير بسوريا نحو دولة المواطنة وسيادة القانون.

ولم يقتصر دور النظام عند حد الإجهاز على نواة أي عمل مدني في سوريا، سواء أكان خافتاً أم عالياً، بل الأخطر أنه تعدى ذلك؛ حدَّ تشويه مفهوم العمل المدني شكلاً ومضموناً، ومن أجل ذلك خلق أجساماً مشوّهة، وقدمها للمجتمع السوري، طيلة عقود، على أنها هي من تمثل المجتمع المدني، وبالمقابل كانت أجهزته الأمنية، ومثلها التوجهات الحزبية والمؤسساتية، تنظر إلى أي حالة مجتمعية، خارج إطار تلك الأجسام، على أنها خطر على الدولة والمجتمع وحتى الأمنِ القومي.

ولقد كانت تلك الأجسام، ومنها: منظمة طلائع البعث، والشبيبة، والاتحاد النسائي، واتحاد العمال، والاتحاد الرياضي، ونقابة الفنانين، واتحاد الطلبة، وغيرها الكثير ممن هيمن عليها حزب البعث، ووضع استراتيجيته لتحقيق أهدافه، هي الوحيدة المسموح لها بالعمل على قضايا المرأة والشباب والمجتمع؛ ما أدى إلى الإجهاز وبشكل كلي على معادلة (الدولة- الشعب- المجتمع المدني) التي هي المعادلة الواجب تحقيقها في دولة مدنية ديمقراطية.

ولدى وصول الأسد الابن إلى السلطة في عام 2000، وعدَ الشعبَ في خطاب القسم بجملة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، ومن بينها النهوض بالمجتمع المدني، ومنحُ الأحزاب والجمعيات تراخيصَ عمل، ومنحُ العملَ الإعلامي هامشاً من الحرية، لكن لم يُترجم أي من هذه الوعود على أرض الواقع، ولم تتقدم أي خطوة باتجاه واقعي يسمح بإعادة التوازن ما بين الدولة والمجتمع المدني.

وبالرغم من ذلك، ظهرت العديد من الجمعيات والتنظيمات التي يرعاها عددٌ من المثقفين والسياسيين، ومن أبرزها: منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي. فضلاً عن بعض المنتديات التي بدأت تنتشر في المدن السورية أمثال: دمشق، وحلب، واللاذقية، وصولاً إلى القامشلي. ومنها منظمات حقوق الإنسان، ولجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية، والمركز السوري للإعلام وحرية والتعبير، ومركز حقوق الإنسان العربي، والرابطة السورية لحقوق الإنسان، واللجان الكردية، ومركز دمشق، والعديد من مراكز الدفاع عن حقوق المرأة والطفل. وتُوّجتْ المرحلة السابقة، التي عرفت بربيع دمشق، بإعلان دمشق عام 2005.

وظل واقع العمل المدني في سوريا على هذا الحال، إلى أن اندلعت الثورة في بدايات عام 2011 ثم تغيّرَ مساره ومفهومه جذرياً، وليعود في بعض المناطق التي سيطرت عليها الفصائل المسلحة الراديكالية؛ ليقع بذلك في صدام إيديولوجي خطير مع هذه الفصائل، التي نظرت إلى العمل المدني على أنه كُفرٌ وإلحادٌ، بل ويشكل خطراً على المسلمين. وشهدت تلك الفترة العديد من التصفيات والإعدامات بحق نشطاء وأعضاء من المجتمع المدني.

ويُنظر إلى مؤسسات المجتمع المدني، في شمال وشرق سوريا، على أنها أحد أهم المنعطفات التي أثرت في البنية المجتمعية المتنوعة والمختلفة بشكل طبيعي للسكان. إذ استطاعت هذه المنظمات، من خلال الندوات والملتقيات والحوارات والمنتديات، التقريب ما بين المكونات في شمال وشرق سوريا، المتنوعةِ ثقافياً وإيديولوجياً وقومياً، والتي حاولت عدة أطراف طيلة عقود خلق فتن وتباينات وحساسيات فيما بينها، وقد بذلت منظمات المجتمع المدني، في هذا الخصوص، إلى جانب مجلس سوريا الديمقراطية وقوات "قسد"، مجهوداً توعوياً جيداً؛ وهذا ما حدا بمراقبين للقول بأن هذه الندوات، لو تم تعميمها على الجغرافيا السورية كاملة لكان لها نتائج مثمرة على أرض الواقع، من شأنها الدفع نحو حل سوري- سوري. وذلك لما لها من شفافية في الحوار، التي يفتقدها السوريون منذ عقود، وهي أبرز ما يتمناه دعاة حل الأزمة السورية من الوطنيين.

وبغض النظر عن تعريف المجتمع المدني، الذي يأخذ تعاريف متعددة من خلال الدور الذي يقوم به، والمرتبط أساساً بالمرحلة التي ينشط فيها، والاستراتيجيات التي يعمل وفقها، فمنذ بداية عمل منظمات المجتمع المدني، في مدينة الرقة على سبيل المثال، اتجهت بكلّيتها إلى العمل الخدمي، على إثر ظروف المدينة بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية/داعش، ونتيجة العمليات الحربية التي خلفت دماراً كبيراً تجاوزت نسبته 90 % وفقاً لتقارير دولية وصحفية.

ففي أواخر عام 2017 وبداية عام 2018 دخلت الرقةُ - المدينةُ التي كان يعوّل عليها تنظيم الدولة الإسلامية/ داعش، الذي اتخذها، طيلة السنوات الأربع التي سيطر فيها على كل جوانب الحياة، عاصمةً له ومركزاً عالمياً للإرهاب - مرحلةً جديدة، فرضت على الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وعلى المجتمع المدني حديثِ النشأة في الرقة خاصة، وفي شمال شرقي سوريا، وحتى على الدول الممّولة برامحَ الدعم، منحى آخر مختلفاً جذرياً عن أهداف المجتمع المدني؛ إذ كان لا بد من تهيئة الجانب الخدمي، وإعادة البنية التحتية المدمرة بفعل العمليات العسكرية، لتأمين عودة آمنة للسكان، ولتهيئة المجال لوجود المؤسسات ومنظمات المجتمع المدني.

أخذت منظمات المجتمع المدني العاملة في الرقة، المحلية منها أو الدولية، دور المؤسسات الخدمية الرديفة لمؤسسات الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، إذ إنه من غير المقبول (على الأقل بالنسبة للسكان) أن تكون فكرة العمل المدني محصورة في جانب الندوات والمحاضرات والجلسات الحوارية، التي تدعو إلى المساواة ما بين الرجل والمرأة وقضايا الجندر، والتحدثِ عن شروط دولة المواطنة، وربما لعب في هذا الإطار تحديداً مدى تأثير أفكار تنظيم داعش، التي كان ينفثها في البنية الفكرية للمجتمعات التي يسيطر عليها، ومن أكثرها خطراً رفضُ الآخر (المختلف) حتى وإن كان هذا الاختلاف طفيفاً، الذي يُعدّ من أبرز مخاطر إيديلوجيا التنظيم بعيدةِ الأمد.

هذا الخط العام الذي يسير عليه تنظيم داعش، والذي عمل من خلاله على أدلجة عناصره المحليين، ممن يسميهم التنظيم - وفق تبويباته - بالأنصار، والذي خلق لديهم الاستعداد الكامل لقبول الإقدام على تفجير المقام الديني لـِ "أويس القرني" عام 2014 والواقع عند مدخل الرقة من الجهة الشرقية، بالقرب من باب بغداد الأثري، وحوّله التنظيم إلى أثرٍ بعد عين، لا لشيء إلا لكونه رمزاً شيعياً، تلك الأفكار الراديكالية هي التي دفعت التنظيم إلى طرد الكرد من الرقة في العام ذاته، وإلى مهاجمة كوباني؛ وفتح جبهة لم تكن في الحسبان مع الكرد والتي مُني فيها بخسارة كبيرة عام 2015، ما جعل التنظيم يضع مسيحيي الرقة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما دفع الجزية أو الدخول في الإسلام.

إذن، البنية التحتية المدمرة للرقة والظروف التي تحيق بها، ومن أبرزها مخاطر الخلايا النائمة للتنظيم، هي التي حولت مهام المجتمع المدني إلى السير باتجاه العمل الخدمي وإلإغاثي. بالإضافة إلى السير ببطء نحو إقامة الندوات الحوارية، مع توخي الدقة والحذر في الطرح المحفوف بالخوف.

ومن الإجحاف أن نقول إن المجتمع المدني في الرقة لم يقم بالدور المنوط به، لكونه اتجه نحو العمل الخدمي، ومن الخطأ التقليل من دوره، لكون أعماله التي قام بها لا تنطبق مع التوجهات والأهداف التي، أساساً، وُجد من أجلها المجتمع المدني. فقد قامت المنظمات العاملة في الرقة، وبالتوازي مع مجلس الرقة المدني، والمُشكل في عين عيسى، في ربيع عام2017 قبل انتهاء معركة الرقة، من أبناء المنطقة بكافة مكوناتها، وكان من أهم لجانه مكتب المنظمات الذي سهل عمل المنظمات المحلية والدولية، التي لعبت دوراً كبيراً بالتوازي مع باقي لجان المجلس والبلديات في ميادين العمل التربوي وافتتاح مراكز الطفولة الآمنة، ومراكز ذوي الاحتياجات الخاصة، وتمكين المرأة، وإعادة تأهيل الطرقات، والشوارع العامة وإعادة مياه الشرب، إلى أحياء الرقة، والمساهمة في الحفاظ على الإرث التاريخي والحضاري؛ من خلال ترميم الأوابد الأثرية، وتتعدد جوانب عمل المجتمع المدني لتشمل غالبية القطاعات، ومن أبرزها قطّاعا الزراعة والصحة.

من جانب آخر، يشكل بروز دور المجتمع المدني، في شمال وشرق سوريا عامةً والرقة خاصة، التجسيد الواقعي ديمقراطياً، إذ بدون المجتمع المدني وأريحيته في العمل تبقى الديمقراطية شعارات لا تمتّ للواقع بصلةٍ.

وانبثق عن الدور الذي قامت به منظمات المجتمع المدني، في المجال الخدمي، حالة من التنافس بينها وبين مؤسسات الإدارة المدنية الديمقراطية، وهذا ما كان له انعكاس إيجابي بشكل متسارع إلى حد ما، في إعادة تأهيل البنية التحتية والخدمية في الرقة؛ فالرقة اليوم تعتبر من أكثر مدن شمال وشرق سوريا استقراراً، ولا نبالغ إذا قلنا إن مستوى الخدمات الموجودة فيها قياسيّ بالنسبة للمدن السورية الواقعة تحت سيطرة النظام السوري. هذا، عدا عن ملف إعادة الإعمار وتعويض المدنيين عن الأضرار التي لحقت بممتلكاتهم، الذي يعدّ من أعقد الملفات في سوريا، ومن أبرز التحديات التي تواجه الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وذلك للتكلفة المادية الباهظة حيال هذا الملف، ومن جهة أخرى رغبة تلك الدول في وضعه ضمن معايير سياسية إقليمياً ودولياً، وربطه بموضوع الحل السياسي في سوريا عامةً.

وبالرغم من كل معوقات عمل منظمات المجتمع المدني في الرقة، وفي شمال وشرق سوريا عموماً، إلا أن مساحة العمل المدني في هذه المنطقة من سوريا تعد الأفضل على امتداد الجغرافيا السورية، بدءاً من المناطق التي احتلتها القوات التركية في أواخر عام 2019 (تل أبيض ورأس العين) إلى إدلب التي تسيطر عليها هيئة أحرار الشام، فإلى المناطق الخاضعة لسيطرة قوات النظام السوري، وذلك استناداً إلى دراسة صادرة عن منظمة Impact.

وتندرج الصعوبات التي تعوّق عمل المجتمع المدني في شمال وشرق سوريا، إلى داخلية وأخرى خارجية. فالداخلية، منها: غياب التخطيط والرؤية الاستراتيجية، وقلة الكوادر المؤهلة تأهيلاً كافياً، وتحديد الأولويات بالتوجه بالعمل والأنشطة، والوقوع في الروتين، وخاصة بما يتعلق بالتراخيص، والمخاطر الأمنية والتي بدأت تخف حدتها في الآونة الأخيرة، وهذا داخلياً، وتبرز هذه المعوقات في الرقة أكثر من مثيلاتها في شمال وشرق سوريا، كونها صاحبة تجربة أقدم في هذا المضمار.

أما عن الصعوبات الخارجية، فالمتغيرات السياسية والعسكرية في شمال وشرق سوريا من أكثر معوقات العمل المدني في المنطقة، مثلما حدث إبان احتلال تركيا المنطقةَ الممتدةَ من تل أبيض إلى رأس العين، عام 2019، وافتقاد الدول المانحةِ استراتيجيةً طويلة الأمد، والمرتبطة أساساً بدول التحالف الدولي. وقد أثار القرار المفاجئ للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، منذ عامين؛ بانسحاب جزء من القوات الأمريكية من شمال وشرق سوريا، تأثيراً بالغاً في عمل منظمات المجتمع المدني، ويعد هذا الانسحاب نقطة مفصلية في آلية عملها، ما أدى إلى توقف عمل المنظمات الدولية في المنطقة، وتوقف برامج الدعم عن التشاركية وتقديم المنح المالية للمنظمات والجمعيات المحلية، وقلة الدعم المالي المقدم من برامج الدعم، وإخضاع المنظمات المحلية إلى سياسة الجهة الداعمة؛ ما يؤدي بدوره إلى هدر الإمكانيات هذه المنظمات، هذا عدا عن الهدر المالي في تنفيذ مشاريع قد لا تنسجم مع واقع ومتطلبات أبناء المنطقة.

يبلغ عدد منظمات المجتمع المدني المرخصة رسمياً في الرقة قرابة 105 منظمةً، تتنوع ميادينها في العمل والتوجهات والرؤى، واتجه غالبيتها في الآونة الأخيرة، بحسب مقتضيات الوضع، إلى العمل المدني رويداً رويداً، ويسعى القائمون عليها، كما في باقي مناطق شمال شرق سوريا، إلى إيجاد منصات فاعلة في التعبير عن وجهة نظرها حيال الواقع سياسياً واقتصادياً، ويأملون أن يكونوا ممثلين عن أبناء المنطقة في المؤتمرات والمسارات الدولية، التي تُقدم نفسها بالعاملة في سبيل إيجاد حل للأزمة السورية، وتكمن الأهمية في العمل الجاد والسير بهذا الاتجاه، خاصة بعد استبعاد مجلس سوريا الديمقراطية عن المشاركة في النقاش حول مسوَّدة الدستور السوري؛ وهذا بسبب الدور التركي المشبوه؛ في محاولات إقصاء "مسد" عن أي حل واقعي للأزمة السورية.

ويبقى هذا الطموح المشروع لمنظمات المجتمع المدني في شمال وشرق سوريا في المساهمة في تمثيل أبناء المنطقة وطرح الحلول لإنهاء الحرب في سوريا مرهوناً بمدى تنظيم منظمات المجتمع المدني لأنفسها ضمن منصات محددة الأهداف والرؤى، ومدى جدية الدول المؤثرة في الملف السوري حيال إشراك جميع السوريين في التعاون، لإيجاد حل نهائي يوقف الدم والمتاجرة بالقضية السورية، التي كلما تأخر حلُّها باتت منعكساتها خطيرةً، حاضراً ومستقبلاً، لا على السوريين فحسب بل حتى على الدول الإقليمية.


انهاء الدورة العاشرة من برنامج تمكين النساء – أساسيات الحاسوب والمهارات الحياتية في مكتب قامشلي

أنهى مكتب آسو في القامشلي الدورة العاشرة من برنامج تمكين النساء – أساسيات الحاسوب والمهارات الحياتية بتاريخ 31 آب 2025. استمر التدريب لمدة شهرين، بمشاركة

اقرأ المزيد
130 منظمة سورية تطالب مجلس الأمن بحماية المدنيين والتدخل الفوري لوقف التصعيد العسكري في شمال سوريا وتعزيز الاستجابة الإنسانية

130 منظمة سورية تطالب مجلس الأمن بحماية المدنيين والتدخل الفوري لوقف التصعيد العسكري في شمال سوريا وتعزيز الاستجابة الإنسانية تحذر المنظمات الموّقعة على هذا

اقرأ المزيد
سوريا: بيان بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة لاحتلال رأس العين/سري كانيه وتل أبيض خلال "نبع السلام"

سوريا: بيان بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة لاحتلال رأس العين/سري كانيه وتل أبيض خلال "نبع السلام" 126 منظمة تدعو إلى إنهاء الاحتلال وضمان العودة الطوعية

اقرأ المزيد